الحلفاء الصغار يحتاجون دوماً إلى رقابة مشددة. هذا مابتنا نعرفه جيداً الآن. ففي بدايات هذا العام لاحظ الدبلوماسيون الأميركيون تصاعداً في التوتر بين جورجيا وروسيا حول أوسيتيا الجنوبية و"أبخازيا"، وأدركوا أن بلادهم لا تمتلك سوى عدد محدود من الأوراق التي يمكن تلعبها إذا ما حدث شيء يؤدي إلى خروج الأمر عن نطاق السيطرة. وفي إطار هذا الإدراك، نصح هؤلاء الدبلوماسيون جورجيا بعدم استفزاز الدب الروسي، ولكن تلك الرسالة جاءت ضعيفة، ومما ساهم في ضعفها تلك الإشارات القوية التي قدمتها واشنطن لتبليسي بأنها ستقف إلى جانبها بقوة إذا ما حدث شيء. نتج عن ذلك أن الحكومة الجورجية قررت أخذ الأمور في يدها، وهو ما أتاح فرصة ذهبية لروسيا، ووفر لها الحجة التي كانت تسعي إليها دوماً كي تمارس نوعاً من البلطجة المحسوبة على جورجيا، وأدى في النهاية إلى ورطة جيوبوليتيكية تركت الجميع في أوضاع أسوأ كثيراً من تلك التي كانوا عليها قبل نشوب الأزمة. والحقيقة أن هذه الأزمة تمثل نموذجاً كلاسيكيا لما يطلق عليه الاقتصاديون" المخاطرة الأخلاقية". يقصد بذلك أن توفير الضمانات والطمأنينة لدولة ما يجعلها عادة تنحو للتصدي لمخاطر أكبر كثيراً مما كانت ستقدم عليه لو لم تتوافر لها مثل تلك الضمانات والطمأنينة. وهو ما ينطبق تماماً على الحالة بين أميركا وجورجيا. فلو لم تعتقد جورجيا– بناء على الإشارات التي أرسلتها إليها واشنطن- أن الولايات المتحدة سوف تتدخل لدعمها في حالة تعرضها للخطر، لما كانت قد تصرفت بالطريقة التي تصرفت بها، ولكانت أكثر حرصاً في تلك التصرفات.ومهما كانت التسويات التي ستجريها في هذا المجال مع روسيا، أو التنازلات التي ستقدمها فإن المؤكد أنها كانت ستكون في وضع أفضل كثيراً من الوضع الذي تجد فيه نفسها الآن. ومثل هذه الأشياء تحدث طيلة الوقت، وهي كلها تبرز السبب الذي يجعل القوى الكبرى تدرك أنها في حاجة إلى الحرص، ومراقبة تصرفات وأفعال حلفائها، والدول المعتمدة عليها، خوفاً من أن يؤدي أي تصرف طائش من مثل تلك الدول إلى توريطها في صراعات لا داعي لها من الأساس. والمفارقة هنا تكمن في أن إدارة بوش كانت تُظهر أحياناً ما يفيد أنها تفهم جيداً المشكلة كما تفهم الحلول اللازمة لها.يتبين ذلك بشكل واضح من خلال معالجتها البارعة لأزمة"تايوان"، وهي دولة ديمقراطية صغيرة أخرى تجد نفسها في نزاع إقليمي مع دولة سلطوية كبرى مجاورة تسعى إلى استعادتها- استعادة تايوان- باعتبارها مقاطعة سابقة تابعة لها. ومنذ انفتاح الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون على الصين، ظلت تايوان مشكلة عويصة بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية. فالصين الأم كانت تتحين دوماً الفرص لاسترداد تايوان، ولكن ما كان يحول بينها وبين ذلك أنها كانت تدرك عمق العلاقة بين تلك الجزيرة والولايات المتحدة التي ارتبطت معها بعلاقات تاريخية ومعنوية وعملية وثيقة باعتبارها دولة ديمقراطية رأسمالية مزدهرة. كانت السياسة الخارجية الأميركية تجاه مشكلة تايوان تعتمد على التسويف بقدر الإمكان، على أمل أن تحين ظروف مناسبة تسمح للطرفين بحل النزاع القائم بينهما. واتبعت واشنطن في سياق ذلك سياسة، يمكن أن نطلق عليها سياسة "الالتباس الاستراتيجي"، وهي سياسة مُصممة بطريقة تجعلها الولايات المتحدة قادرة على ردع الطرفين عن القيام بأي تحركات راديكالية يمكن أن تهز الوضع القائم أو تشعل شرارة حرب. وفي التطبيق العملي، كانت هذه السياسة تعتمد على إرسال إشارات للصين مفادها أن الولايات المتحدة، لن تتردد عن مساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم غير مبرر تقوم به الصين، مع التأكد في نفس الوقت على أن تايوان لن تقدم من جانبها على القيام بأي أعمال تشكل استفزازات خطيرة(مثل إعلان استقلالها من جانب واحد). كانت هذه السياسة في حقيقتها مزجاً بارعاً بين الواقعية السياسية والمثالية السياسية، مثل دوماً نموذجاً رائعاً للواقعية الأميركية المميزة التي كانت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية تحرص على الإشادة بها. واللافت للنظر في هذا السياق هو أنه عندما حاول "المحافظون الجدد" قلب هذه السياسة، وتحويلها إلى سياسة تقوم على الدعم العلني وغير المشرط لتايوان في صراعها مع الصين، فإن فريق إدارة بوش لم يأبه لما يقولونه كثيراً. وعندما بدت تايوان وكأنها على وشك إعلان الاستقلال منذ عدة أعوام، فإن أعضاء هذا الفريق تعاملوا بصرامة ومن وراء ستار مع المسؤولين التايوانيين، وأجبروهم على عدم الإقدام على هذه الخطوة. وهو موقف ربما يساعدنا على فهم سبب غياب المشكلة التايوانية عن الصفحات الأولى للصحف الأميركية خلال السنوات الماضية. إن هذا النوع من"الحب الخشن" تجاه الشركاء الصغار من ذوي الميول الاستقلالية، كان يمثل دائماً مكوناً قيماً للغاية من مكونات الترسانة الدبلوماسية الأميركية، التي كان يشرف عليها في معظم الأحيان نفر من صناع السياسة المصممين على الإمساك بزمام المسائل الحساسة. وهناك مثال بارز على ذلك وهو ما قامت به إدارة جورج بوش الأب في حرب الخليج الثانية عندما عملت على الحيلولة بين إسرائيل وبين الانتقام للضربات الصاروخية العراقية على مدنها خلال حرب الخليج الثانية، خوفاً من تمزق التحالف الذي كانت قد نجحت في تكوينه لتحرير الكويت من القوات العراقية. وعلى الرغم من أن الخبراء قد يختلفون الآن بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة الآن على منع إسرائيل من ضرب إيران، بنفس السهولة التي قامت بها بذلك إبان حرب الخليج الثانية، فإن الأمر المهم في الموضوع هو أن أميركا نجحت بالفعل في تسجيل سابقة واضحة لا لبس فيها وهي: إذا ما حدث اختلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول الحكمة من توجيه ضربة ضد إيران لمنعها من المضي قدماً في مشروعها النووي، فإن وجه نظر أميركا، هي التي يجب أن تسود باعتبارها الشريك الأكبر. إن المناقشة العامة حول السياسة الخارجية غالباً ما تنحو إلى أن تكون تبسيطية، لدرجة تقف بها عند حدود الهزل والكاريكاتير. فمثل تلك المناقشات تقوم عادة على تقسيم البشر إلى أخيار وأشرار، وتقسيم الدول إلى صديقة وأخرى عدوة، مع العمل على مساندة الأولى، ومواجهة الثانية. وقد تبدى ذلك بشكل واضح للغاية في المقابلة التي اجرتها "سارة بالين"، حاكمة آلاسكا الحالية، والمرشحة لمنصب نائب الرئيس على تذكرة الحزب "الجمهوري" مع "شارلي جيبسون" في محطة "آيه بي سي" منذ أيام. فعندما ضغط عليها مقدم البرنامج للحديث عن مدى إمكانية إقدام إسرائيل على ضرب إيران، فإنها كررت الإجابة ثلاث مرات متعاقبة حيث قالت:"نحن وإسرائيل أصدقاء ونحن لسنا بحاجة للتخمين مرتين بشأن الإجراء الذي يجب على إسرائيل اتخاذه من أجل الدفاع عن نفسها ومن أجل تحقيق أمنها". بيد أن الخبراء يدركون جيداً أن العالم الحقيقي يكون في معظم الأحيان أكثر تعقيداً، وأن الدول لها مصالح مختلفة، وأن القوى الكبرى يجب أن تكون حذرة جداً لئلا يقودها الأشخاص الطيبون من أصدقائها إلى منزلق خطر، أو مأزق يصعب الخروج منه. لعل هذا هو السبب الذي جعل وزير الدفاع "روبرت جيتس" ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال "مايكل مالين" يقومان بكل ما في وسعهما هذا العام للحيلولة دون تبلور إمكانية إقدام إسرائيل على توجيه ضربة جوية ضد إيران، وهو ما مثل قدرا كبيراً من خيبة الأمل للمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية. من الطبيعي بالنسبة للديمقراطيات الصغيرة التي تعيش في مناطق خطرة، وبجوار جيران كبار غير ديمقراطيين، أن تسعى للحصول على الدعم والحماية من الولايات المتحدة، وفي أحيان كثيرة قد يكون من اللائق، بل ومن الواجب على أميركا ألا تتردد في منح مثل تلك الدول ما تحتاجه من دعم وحماية.ولكنها عندما تختار أن تفعل ذلك فإنها- الولايات المتحدة- يجب أن توضح لتلك الدول أن ذلك الدعم يرتب عليها مسؤولية التصرف بتعقل وحصافة، ثم تستخدم بعد ذلك كل ما في حوزتها من وسائل وأدوات كي تضمن التزام تلك الدول بذلك. إن جورج دبليو بوش الإبن عرف ذلك في آسيا، ولكنه للأسف نسيه في القوقاز. أما الطريقة التي يمكن أن يعالج بها أزمه مماثلة في الشرق الأوسط، خلال الشهور المتبقية على ولايته فتبقى- حتى الآن على الأقل- أمراً غير واضح. جيديون روس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير تحرير دورية "فورين آفيرز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"